31/12/2023
جامع اﻹيمان الشيخ محمد نعيم عرقسوسي:
جلسة الصفا
16 جمادى الآخرة 1445
29 كانون الأول 2023
لفضيلة الشيخ
محمد نعيم عرقسوسي
بعنوان:
*جرد حساب آخر العام*
ها قد مضى عامٌ كامل، وانقضى بمضيه جزءٌ كبير مهم من أعمارنا، وانصرمت به قطعة كبيرة من حياتنا، واقتربنا كثيراً من قبورنا وآجالنا.
وكما أن التاجر الحاذق يقوم بإجراء جرد حساب في آخر العام ليعرف ربحه من خسارته، فإن القيام بجرد حساب الأعمال، أهم بكثير من جرد حساب الأموال، لأن المال إن خسر يعوَّض، وأما أيام العمر وهي فرصة الربح ومجال الأعمال فإنها لا تعوض، كما قالوا:
*ما مضى فات، والمؤمّل غيب، ولك الساعة التي أنت فيها*.
لذلك قال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه:
*حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم*.
فالحساب لا بد آت في يوم قال تعالى فيه:
(يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ ، كَلَّا لا وَزَرَ ، إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ، يُنَبَّأُ الْأِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ)
وفي ذاك اليوم سيُقال لكل واحدٍ منا:
(اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا)
إذا فليقرأ كلٌ منا كتابه من الآن، ليعرف ماذا سجَّل في كتابه هذا العام.
وهذا ما أمرنا الله تعالى به حين قال سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ)
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: أي حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وأنظروا ما ادخرتم لأنفسكم من الأعمال الصالحة ليوم معادكم وعرضكم على ربكم سبحانه وتعالى.
استعرض في ذاكرتك ماذا فعلت في العام الماضي:
كم ملهوفاً أغثت؟
كم محتاجا أعنت؟
كم كربة مكروب فرَّجت،
كم مريضاً ساعدت ؟
كم من حوائج الناس قضيت؟
كم من مالك تصدقت؟
هل قضيت ديناً عن غارم مثقل بالدين؟
هل خففت الأجرة عن مستأجر؟
هل خفضت أجرة معاينتك إن كنت طبيباً؟
وهل خفضت أجرة مرافعتك إن كنت محاميا؟
أم فرحت بالمال الوفير بين يديك؟
هل تصالحت مع أخيك الذي خاصمته فعدت إليه ووصلته؟
كم مرة وصلت رحمك؟
كم مرة صليت الفجر في جماعة؟، أم فاتتك في السنة كلها؟
كم مرة ختمت القرآن؟
وأمر مهم جداً: هل كففت أذاك عن الناس؟، هل قدمت لهم ما ينفعهم؟
حاسب نفسك اليوم قبل أن تُحاسب في يوم لا مفر منه ولا مهرب.
زِنْ أعمالك التي ستوضع في ميزان يوم القيامة، هذا الميزان الذي ذكره الله تعالى في القرآن الكريم في آيات كثيرة، قال تعالى:
(وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ)
قال القرطبي وغيره من أهل العلم:
إن الآية تدل بظاهرها على أن لكل مكلَّفٍ ميزانه الخاص توزن به أعماله، توضع الحسنات في كفة، والسيئات في كفة، والله أعلم كيف يكون ذلك.
وقيل:
يمكن أن يكون ميزاناً واحداً عبر عنه بلفظ الجمع، واستدلوا بمثل قوله ﷺ:
يوضع الميزان يوم القيامة، فلو وزن فيه السموات والأرض لوسعت، فتقول الملائكة: يا رب لمن يزن هذا؟، فيقول الله تعالى: لمن شئت من خلقي، فيقولون: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك.
رواه الإمام الحاكم في المستدرك.
قال الحافظ ابن كثير:
الأكثر على أنه إنما هو ميزان واحد، وإنما جمع باعتبار تعدد الموزونات فيه من الأعمال والأقوال والصحف والأشخاص.
روى الإمام أحمد والترمذي عن النبي ﷺ أن رجلا من أصحاب رسول الله ﷺ جلس بين يديه، فقال:
يا رسول الله إن لي مملوكين يكذبونني ويخونونني ويعصونني وأضربهم وأسبهم، فكيف أنا منهم؟؟، فقال له رسول الله ﷺ: يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك وعقابك إياهم، فإن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم كان فضلاً لك عليهم، وإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافاً، لا لك ولا عليك، وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم اقتُص لهم منك الفضل الذي بقي قِبَلك، فجعل الرجل يبكي بين يدي رسول ﷺ ويهتف، فقال رسول الله ﷺ: ما له؟؟!!، أما يقرأ كتاب الله، قال تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ)؟؟
فقال الرجل: يا رسول الله، ما أجد شيئاً خيراً من فراق هؤلاء- يعني عبيده- إني أشهدك أنهم أحرار كلهم.
وقوله تعالى: (فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا) ، أي لا ينقص من إحسان المحسن ولا يزاد في إساءة المسيء، وهذا كما قال تعالى في آية أخرى:
(إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا)
وأكد العلماء على أن الميزان على ظاهره، والله تعالى أعلم بكيفية وزن الاعمال، وإن كان الوزن حقيقة أو مجازا، فالآية تدل على أن كل إنسان يجازى على عمله مهما دقَّ وصغر، كما قال تعالى:
(فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)
وقال تعالى:
مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ
وقال:
(وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ)
ويدل على وزن الاعمال ما رواه الإمام الترمذي عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال سمعت النبي ﷺ يقول:
*ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق، وإن صاحب حسن الخلق يبلغ به درجة الصائم القائم*
ويدل على وزن الأقوال ما رواه مسلم
عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي ﷺ قال: كلمتان حبيبتان إلى الرحمن خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم.
وما رواه الإمام مسلم عن أبي مالك الأشعري أن رسول الله ﷺ قال:
*والحمد لله تملأ الميزان*
ومتى يكون الميزان؟؟
قال القرطبي:
فإذا انقضى الحساب كان بعده وزن الأعمال، لأن الوزن للجزاء، فينبغي أن يكون بعد المحاسبة، فإن المحاسبة لتقدير الأعمال، والوزن لإظهار مقاديرها ليكون الجزاء بحسبها.
فهل عملت يا ترى في هذا العام من الأعمال الصالحة والحسنة ما تثقل به ميزانك لتكون من المفلحين، ومن الناجين، كما قال تعالى: (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ) وقال تعالى: (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ)
أم إنك قصًرت وتهاونت وأجَّلت وسوَّفت حتى مضى العمر وانقضت الأيام والأعوام.
كم من الناس أمضى أيامه ولياليه في تفاهات وسخافات وترهات؟
كم من الناس أمضى لياليه مع رفاق السوء في سهرات عابثة أو ماجنة؟
كم من الناس أضاع أوقاته الثمينة في مطالعة الجوالات في غير النافع والمفيد من المعلومات؟
كم من الناس أضاع العمر النفيس في أمر خسيس؟
إن العمر أثمن وأنفس من مال الدنيا كله، ومن ذهبها وفضتها، إن يوماً واحداً من العمر لا يعدله ملء الأرض ذهباً، ودليل ذلك أن من نزل به الموت يتمنى أن يفتدي نفسه بجميع ما يملك، ويعيش أياماً أخرى معدودة؟؟.
إنك إن لم تحاسب نفسك الآن، سوف تحاسبها قطعاً في ساعة لا ينفعك فيها محاسبتها، حيث تجد عمرك قد مضى خالياً من العمل الصالح، فارغاً من الحسنات، فتتوسل إلى الله تعالى أن يزيد في عمرك لتستدرك ما فات، فيُفاجأ المرء المقصر حينئذ بجواب صادم مؤلم، ذكر الله تعالى هذه الساعة الخطيرة التي لا بد آتية، في قوله تعالى:
﴿حتى إِذا جاءَ أحَدَهُمُ المَوتُ قالَ ربِّ ارجِعونِلعَلّي أَعمَلُ صالِحًا فيما تَرَكتُ)
ويأتي الجواب من الله تعالى صاعقاً مخيباً للآمال: (كَلّا إنَّها كَلِمةٌ هو قائِلُها ومِن ورائِهِم بَرزَخٌ إِلى يَومِ يُبعَثون﴾ .
فلا عودة إلى الوراء ولا رجعة إلى أيام الدنيا، وثمة مرحلة جديدة، قال تعالى:
﴿فَإذا نُفِخَ في الصُّورِ فَلا أنْسابَ بَيْنَهم يَوْمَئِذٍ ولا يَتَساءَلُونَ، فَمَن ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ، ومَن خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أنْفُسَهم في جَهَنَّمَ خالِدُونَ﴾
وخسارة النفس هي أعظم خسارة على الإطلاق، إذ كل شيء آخر يُخْسَر قد يعوض، أما خسارة النفس فلا يمكن أن تعوض أبداً.
لذلك كانت ساعة الموت عند الصالحين، من أشد الساعات ، لأنهم يخافون من
المصير بعد الموت، رغم ما كانوا عليه من تعبادة وتبتل .
ج ومن هؤلاء التابعي الجليل مسروق بن الأجدع وهوالمحدث الفقيه، قالت امرأته: كان مسروق يصلي حتى تورمت قدماه، وكنت أبكي شفقة عليه،
وغشي عليه وهو صائم في يوم صائف، فقالت له ابنته عائشة: يا أبتاه أفطر واشرب، فقال لها: ما أردتِ يا بنية؟، قالت: الرفق بك، قال: يا بنية، إنما أطلب الرفق لنفسي في يوم كان مقداره خمسين الف سنة.
وحين حضرته الوفاة بكى، فقيل له: ما هذا الجزع؟؟، قال: مالي لا أجزع وإنما هي ساعة، ولا أدري أين يُسلك بي، بين يديَّ طريقان، لا أدري إلى الجنة أم إلى النار.
فإذا كان هذا حال مسروق وجزعه عند الموت، فما يقول أمثالنا؟؟!!.
لذلك أرشدنا الله تعالى إلى المبادرة إلى العمل الصالح وإلى السبق إليه قبل أن تخترمنا المنية ويفجأنا الموت فقال تعالى:
(وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ، وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا ۚ وَاللَّهُ
ب. خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)
وحذرنا النبي ﷺ ، من الإمهال والتسويف والتأخر في المبادرة إلى الأعمال الصالحة ، لأن في ذلك ضياع فرصة الحياة وفوات الأوان ،
فروى ابن عباس رضي الله تعالى عنه عن النبي ﷺ قوله:
*احذروا التسويف ، فإن الموت يأتي بغتة*
ونحن على أعتاب عام جديد ينبغي أن نستقبله بتوبة صادقة وعزم صادق على أن نغتنم أيامه الآتية بالطاعات وعمل الخير والمبرات، وبما يعود علينا بربح الأجر والثواب والحسنات .
وثمة من يستعد لقضاء ليلة راس السنة في مرح وطرب ولهو وبطر ولعب وطعام وشراب، فكيف تطيب النفوس بذلك وأهل غزة تنزف جراحهم وتدمر بيوتهم، وتقصف مستشفياتهم ويقتل أطفالهم ونساؤهم، وصار عدد شهدائهم من النساء والأطفال والشيوخ أكثر من عشرين ألف شهيد، هذا عدا الجرحى والمعاقين؟؟!!!.
كيف تطيب النفوس بالتوسع في أطايب الطعام والشراب وأطفال غزة يتضورون من الجوع، بل يموتون من الجوع؟؟!!.
كيف يسوغ لنا الطعام وهذا حال أطفال غزة ونسائها وشيوخها ولا حول ولا قوة الا بالله؟؟!.
بل ينبغي أن نكثر من الدعاء لهم أن يفرج الله تعالى عنهم، ويكشف الكرب والبلاء عنهم ويقهر عدوهم ويمزقه شر ممزق ويريح العالم كله منهم ، ويشفي صدور قوم مؤمنين.
اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
اللهم اجعل خير أعمارنا آخرها ، وخير أعمالنا خواتيمها ، وخير أيامنا يوم نلقاك يا رب العالمين.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
والحمد لله رب العالمين